الظلم ظلمات يوم القيامة 3-3
(المسلم والمؤمن لا يشرك بالله، ولا يؤمن بغير الله وحده وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)
بعد أن تناولت في الحلقتين السابقتين الظلم ومخاطرة على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، وأسبابه، وأنواعه، وطرق علاجه نريد أن نختتم هذا الموضوع بتقديم المزيد من الايضاحات حول هذا الجرم المشين (الظلم) حتى تعم الفائدة المرجوة بما يؤدي إلى تدارك الجميع لخطورة الظلم الذي حذرنا منه الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا).
ولعل تناولي لهذا الإثم المبين وتخصيص ثلاث حلقات له يأتي من شدة خطورته، وسرعة انتشاره بين الناس لأن النفس البشرية طبعت وجبلت على (الظلم) فالإنسان لو ترك لغرائزه وأهوائه (جار وظلم) بدون شك فا الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان من عدم يعلم ذلك حين قال :(إن الإنسان لظلوم كفار)، وقال كذلك :(إنه كان ظلوماً جهول) حقيقة أن النفس البشرية تميل إلى الظلم وحتى أن الإنسان يميل إلى ظلم نفسه حيث قال تعالى (فمنهم ظالم لنفسه) .
والظلم من شيم النفوس ولو ترك الناس لأهوائهم وأنانيتهم ظلموا وبغوا في الأرض، ولولا رسالات السماء ولولا الإيمان الذي يعصم الناس من الظلم ويدعوهم إلى العدل والقسط بين بعضهم بعضاً لفسدت الأرض بالظلم ولكن نحمد الله كثيراً أن جاء بالديانات السماوية جميعها وبالإسلام رحمة وعدلاً داعياً البشرية للعدل وناهياً لها عن الظلم والبغي والعدوان.
ولقد رأينا أن الناس في الجاهلية كيف كانوا يتفاخرون بأنهم يظلمون، وكذلك كل الجاهليات حيث نقل لنا التاريخ حياتهم الصاخبة والمليئة بالظلم ولا نصرة فيها ولا عدل حيث صور لنا زهير بن أبي سلمى في معلقته والتي كان يعدها العرب من معلقات الحكمة ذلك الواقع المرير حيث قال :
ومن لم يذد في حوضه يهدم
ومن لم يظلم الناس يظلم
كما قال عمرو بن كلثوم كذلك في معلقته الشهيرة:
لنا الدنيا ومن أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرين
فكانوا يتفاخرون بالظلم، ويتفاخرون فيما بينهم ذلك ويعدونه من الشجاعة والبسالة في الإقدام بأن تظلم أخاك وتأخذ حقه بالقوة، وهكذا كان حال البشرية تجد الضعفاء فيها ضائعين ومهضومة حقوقهم وتدوسهم أقدام الأقوياء والفقراء تأكلهم براثن الأغنياء، والمحكومون يفترسهم الحكام، وهكذا كان العالم يحكمه مبدأ القوة حتى جاء فجر الإسلام الناصح ليحرم المظالم كلها، ويعلن في الناس ما قاله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه في الحديث القدسي :(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، ويقول ربنا عز وجل وعلا :(ن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون) وهنا تكمن العظمة الإلهية في ضرورة نبذ هذا الظلم والابتعاد عنه فا الله سبحانه وتعالى مع قدرته وملكوته الذي لا يحد حد حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً على عباده.
ولكن للأسف رغم ذلك التحذير يقدم الإنسان الجاهل الظلوم على ارتكاب هذا الإثم العظيم دون إدراك لعواقبة الوخيمة المتمثلة في خراب الديار وفساد الأحوال، فا الله تعالى يقول (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا) ويقول كذلك (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا). فالظلم يخرب الديار وهو سبب الهلاك والدمار.
وعلى الظالمين أن يعلموا كذلك بأن إمهال الله لهم وتركهم في الاستمرار بالظلم ليس عن رضى منه سبحانه وتعالى، بل إن الله يمد لهم في آجالهم وأرزاقهم، فقط حتى إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، ليس ذلك فحسب بل إن الله ربما أمد للظالم في رزقه، وأطال له في أجله، ليس رحمة به ولا رضى بما يصنع إنما مكر بهم واستدراج لهم، وربما كلما زادوا في الظلم زاد لهم في العطاء، حتى تأتي النقمة فتباغتهم وتأخذهم من حيث لا يحتسبون، فا الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم :(فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون).
ولعل من أولى مراتب الظلم وهو ظلم الإنسان لنفسه، بأن يتركها ترتكب المعاصي، وتتمرد على خالقها ويليه الظلم في محيط الأسرة، بأن يظلم الإبن أباه أو أمة بأن يعقهما، أو أن يظلم الأب أو الأم أبناءهما، أو ظلم الأخ لأخيه ثم الظلم في محيط المجتمع، كظلم أرباب العمل للعمال، أو ظلم القوي للضعيف، ومن آثار هذا الظلم، أن يذهب بالبركة ويفتت القوى ويوهن أواصر المعرفة، ومن أشد أنواع الظلم، هو ظلم القوي للضعيف، لأن الله سبحانه وتعالى يقول، في الحديث القدسي :(اشتد غضبي على من ظلم ولم يجد له ناصراً غيري) وإذا كثرت المظالم في أي بقعة من الأرض وقع بها عقاب الله وغضبه.
ومن أشد أنواع الظلم كذلك هو ظلم القاضي للمتحاكمين إليه لأن من المفترض في القاضي العدل ومخافة الله أثناء النظر في أي قضية تعرض أمامه وأن يحكم حسب شرع الله والحق لا حسب الهوى ولا حسب مكانة المتحاكمين من القاضي أو من يعلوه في المكانة مهما كانت لأن الله يراقبه وهو يقوم بالواجب العظيم والهام والحساس في المجتمع لأن عبره يتم بسط العدل وتحقيق الأمن والاستقرار بين الناس استجابة لقوله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيرا) سورة النساء الآية : 58.
ونعلم أن المسلم ليس عليه ألا يظلم فحسب بل عليه كذلك ألا يعين على الظلم،لأن معين الظالم ظالم فمن عاون ظالماً غير مكره فهو شريك له في الإثم، وعليه كذلك ألا يركن إلى ظالم مهما كبرت مكانته وعلا شأنه، أي لا يكون مع الظالم، وأن يستنكر عليه ظلمه، لأنه منكر ويجب على المسلم أن يسعى في تغييره وتعديله ما أمكن ذلك ولو بقلبه، لأن الله يأخذ ويعذب الظالم والمعين له على الظلم وقد قص لنا القرآن الكريم ذلك عن فرعون وجنوده في قول الله تعالى (فأخذناه وجنوده فنبذناهما في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) فهذا كان جزاء فرعون والجنود الذين أعانوه على الظلم.
ومن حق المسلم على المسلم أن يمنعه من الظلم، وأن ينصره على نفسه والشيطان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا يا رسول الله ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً، قال تأخذ فوق يديه، فذلك نصرك أياه.
ومن حق المظلوم أن يرد الظالم بما يقدر عليه فا الله تعالى يقول:(والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) ومنم حق المظلوم كذلك أن يلجأ إلى الأقوياء ليردوا عنه الظلم، فإن لم يجد من ينصره من أهل ا لأرض فمن حقه أن يلجأ إلى أقوى الأقوياء، الله سبحانه وتعالى، ورسولنا الكريم يبشره فيقول صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا ترد دعوتهم :(الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم . فالله يرفع دعوة المظلوم فوق السماء ويفتح لها أبواب السماء، ويقول وعزتي وجلال لأنصرنك ولو بعد حين).
وإزاء ما تقدم أدعوا الجميع إلى الحذر من الظلم، وأن يخاف كل ظالم جبار الله سبحانه وتعالى وعليه أن يتذكر أن باب الله مفتوح فمن ظلم، عليه أن يلجأ إلى الله ويستغفره ويتوب إليه، وقد وعد ربنا عباده بأنه يغفر الذنوب جميعاً امتثالاً لقوله تعالى (إن الله يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به) فيا لها من عظمة للإسلام وتعاليمه السمحاء وقيمه النبيلة ومبادئه السامية لان دين رحمه وتراحم وحب وتعاون وتضامن يبشر الله فيه الناس بالجنة رغم ما ارتكبوه من معاصي وما اقترفوه من ذنوب فا الله يغفر الذنوب حتى لا ييأس عباده من روحه ورحمته، ولا يتمادوا في غيهم وضلالهم وظلمهم لأنفسهم والناس أجمعين.
ختاماً أحببت في هذا الشهر الفضيل أن أدعوا نفسي أولاً ثم أدعوكم جميعاً إلى أن نستغل فرصة الرحمة والمغفرة والتوبة..أن نأخذ وقفة في مشوار العمر وسنينه لمراجعة الذات وتصرفاتها ومحاسبتها إن كانت ظلمت أو تعدت على حقوق أي إنسان كائن من كان..علينا أن لا نكابر ولا يأخذنا الغرور والغطرسة والاستعلاء على البشر لنمارس الظلم بأي شكل من الأشكال تحت أي ذريعة كانت أو مبرر فالظلم يبقى ظلم ليس له سوى وجه واحد شاحب أسود..وأسم واحد، كما أنه ليس له ما يبرره مهما كان..إني أدعوكم أخي في الله صغيراً كنت أم كبيرا إلى مراجعة النفس ومحاسبتها وعدم الغفلة والاعتقاد بطول الأمل وأنك مخلد في هذه الحياة تظلم هذا وتجرم في حق ذاك فو الله دعوة من مظلوم في أناء الليل عليك أيها الظالم لا تكلفه سوى أن يرفع يديه إلى الله وهو محروق القلب لتكون نكبتك على يديه التي احتقرتها واستضعفتها وتعاليت عليها وعلى صاحبه لتدفع ثمن ظلمك إما في نفسك أو مالك أو أهلك وطوال حياتك أيها المسكين ..ثمنك مجرد رفعة المظلوم يديه إلى السماء فلا جاهك ولا سلطانك يستطيعان أن يقفاها وهي مسرعة لتطرق أبواب السماء..لتكون الحياة بعد ذلك جحيماً وبؤساً فكم من طاغية ومستبد شاهدنا كيف فعلت به الأيام والسنين وتحول إلى بضاعة رخيصة أهله قبل الغرباء يدعون عليه بالموت والراحة والخلاص من ذنوبه وآثامه وأمراضه التي حرمته وحرمت أهله وناسه الراحة ولذة النوم..عد إلى الله أيها الظالم فو الله أنك ستدفع ثمن ظلمك ومؤامرتك وجرائمك مرتين في الدنيا ومن ثم الآخرة.
أيها الإخوة القراء..يشهد الله إني أخاف من نفسي على نفسي..وإنني أشعر بتقصيري تجاه نفسي من محاسبتي لها ومراجعتي لها خوفاً عليها من أن تأخذها الدنيا وتنجر للذاتها فيقسوا القلب ويضعف الإيمان فتطمع وتجشع فتستبد وتظلم فيا لهفي على نفسي ويا ويحي من نفسي.
أيها الإخوة..إنني أحببت من خلال هذه الحلقات الثلاث حبا بكم وخوفاً عليكمأن أعظكم بما أوتيت من العلم وما أوتيت إلا القليل القليل.. أحببت أن أناصحكم وأنا المقصر المقل في مناصحة نفسي بعدم (الظلم) والنفس امارة بالسوء..كما أنني أعترف لكم أنني مهما كتبت في هذا الموضوع فلن تكفيني أوراق وصحف الكون كله من هول ما رأيت وشعرت ولمست وسمعت وشاهدت في هذا الزمن الغابر الذي استشرى به الظلم وتفشى..في هذا الزمن الصعب، الذي نمر فيه بمنعطف خطير، وتحديات كبرى أفسدت فيه النفوس إلا من رحم ربي وأنشغل فيه الجميع بحب الدنيا حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تتنافسوها كما تنافسها اللذين من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم) صدقت يا رسول الله ومصطفى خلقه بأبي أنت وأمي ففي هذا الزمن انتشر فيه الظلم والطغيان وساد فيه الطمع والفساد وضاعت فيه الحقوق والواجبات لم يعد هناك بصيص لنور العدل وبياض الحق.
إيها الأخ المظلوم..لا تقلق أيها الحبيب..فو الله إن الله لا يقبل لك ما وقع عليك من ظلم وأن حقك محفوظ فأجتهد بالدعاء وسترى بأم عينك كيف يكون العقاب لمن ظلمك على يد الجبار سيكون إحقاق حقك ورد اعتبارك..فيكفيك أن دعوتك ليس بينها وبين خالق الخلق ومدبر السماء أي حجاب فلا تقلق وأطمئن..ونم قرير العين فا الله رءوف رحم بك.
أما أنت أيها الظالم..أقول لك أن باب التوبة مفتوح على مصراعيه فأستغل الوقت والفرصة ودع عنك المكابرة عد إلى الله وأعترف بخطئك وبادر بإصلاحه ولا تغتر بنفسك فثمن ظلمك سيكون وبالاً عليك فلا تدمر حياتك وحياة أهلك وأبناءك.. أقولها نصيحة أفعلها من أجلك ومن أجل أهلك وناسك لا لا تدعها تفلت منك وحينها لا ينفع الندم إذا أصابتك الدعوة وحلت عليك أيها المسكين الضعيف.
وأخيراً اسأل الله العلي القدير ببركة هذا الشهر الفضيل والعشر الأواخر أن يتقبل من الجميع الصيام والقيام وصالح الأعمال وأن يهدينا إلى سبل الرشاد وأن يكفينا شر الظلم والظالمين وأن يحفظ ديننا الذي هو عصمة أمرنا من كل مكروه..اللهم إني كتبت خالصاً لوجهك الكريم..اللهم فأشهد يارب العالمين..
تركي بن بندر
13/10/2006