الأربعاء، 8 فبراير 2012

عمل الحسبة ..والخروج عن الغايات والأهداف 2


عمل الحسبة ..
والخروج عن الغايات والأهداف
 2-5
10 ديسمبر 2005

  أكدنا في (الحلقة الأولى) أن أمر الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر يقوم على الرفق واللين،، والرقة، والرحمة ولا يقوم على العنف والشدة والغلظة والنقمة والتشهير امتثالاً لقوله تعالى عندما بعث سيدنا (موسى) وأخاه (هارون) إلى (فرعون) وهو طاغية ومتجبر في الكفر ولكن رغم ذلك أوصاهما الله بتليين القول له في الدعوة حيث قال أعز من قال (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى،  فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) "الأيتان 43 و 44 سورة طه" . فإذا كان هذا الأسلوب الذي يأمر به رب العالمين نبيه (موسى) عليه السلام مع أكبر طاغية لم تعرف البشرية على مر التاريخ مثل تطاوله وطغيانه وفساده في الأرض . من هنا ألا يحق لي أن أتساءل عن شكل وصورة الدعوة ومستوى الرفق واللين والرحمة إذا كانت من مسلم لأخيه المسلم الذي ارتكب معصية ؟ ألم يقل الطاغية (فرعون) أنا ربكم الأعلى ومع ذلك يأتي التوجيه الرباني باستخدام القول اللين ؟ّ! فمن باب أولى أن يكون ذلك ديدن كل الدعاة والذين نذروا أنفسهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
  من هنا نقول : إن الأصل في الدعوة أن تكون بـ(الحكمة) والتي تعني (الخطاب) الذي يقنع العقول بالحجة والبرهان، والدليل واتباع الموعظة الحسنة، وهي (الخطاب) الذي يؤثر أيضاً في القلوب رغباً ورهباً والجدال بالتي هي أحسن من خلال (الحوار) مع المخالفين بأحسن الطرق وأرق الأساليب التي تقربهم من  الله سبحانه وتعالى ولا تبعدهم عن دينه وتنفرهم وتكرههم ..إنها دعوة بعيده كل البعد عن إهانة المسلمين والمسلمات وإذلالهم وتهديدهم بالبطش بهم وإرعابهم بالتشهير بهم وفضح سترهم وتخويفهم بقوة السلطة التي بين يديهم .. تلك السبل التي سرعان ما يزول تأثيرها إن لم تكن نتائجها عكسية تماماً على الفرد المسلم والمسلمة .. لا بل قد تشوه الدين الإسلامي وحقيقة صورته التي نجح أعداء الأمة في توظيف أفعال هؤلاء و الاستشهاد بها في مشاريعهم التي تقوم على تشويه صورة الإسلام و المسلمين وكأن هؤلاء – وللأسف الشديد – يعملون بطريقة غير مباشرة لخدمة أعداء الأمة من المسلمين أصحاب التيارات الليبرالية والعلمانية وكذلك الآخرين من غير المسلمين كلهم وجدوا في اقتناص أساليب العنف والشدة والغلظة والإذلال والإرهاب ضالتهم المنشودة والمادة التي لا بد من رصدها وتظيفها لخلق حالة من الكره والحقد وتطفيش الناس من الدين والمتدينين ودفعهم إلى الإنحلال الخلقي والإنفلات نكاية ورداً على هؤلاء ..وهنا تتجلى عظمة الإسلام وحكمتة في التشديد على اللين والرفق والموعظة الحسنة في الدعوة لكي لا تستثمر الأساليب التي تخرج عن هذا الأسلوب للإساءة والتشوية لحقيقته وجوهره كدين أممي عالمي .
  لقد علمنا القرآن الكريم وهو يعرض لنا قصص الرسل عليهم السلام، بأنهم خاطبوا أقوامهم بالحسنى واجتهدوا في ذلك أيما اجتهاد أولئك الأقوام الذين كانوا يشركون بالله ويعبدون الأوثان من دونه (  قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)) "الآيات 2 – 4 سورة نوح" وكذلك في سورة نوح يقول الله تعالى (ذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) "الآيات 105-109 سورة الشعراء" لقد جاءت كل صيغ الدعوة بصيغة العقل والمنطق الخطابي ورقيقة بأمر الله سبحانه وتعالى .
  وقيل في المأثور إن رجلاً دخل على (المأمون) يعظه فقال له : اتق الله أيها الظالم الفاجر فقال له المأمون – وكان على علم وفقه : يا هذا : إن الله بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق واللين بعث (موسى) و (هارون) وهما خير منك إلى فرعون وهو شر مني وقال (فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) "الآية 44 سورة طه" .
  ومن قراء سنة الرسول الكريم (القولية) ممثلة في أحاديثه عليه الصلاة والسلام أو قرأ سنته (العملية) ممثلة في سيرته صلى الله عليه وسلم الطاهرة يجد أسلوب الرفق واللين واللطف في الدعوة والمعاملة شديد الوضوح والعمق في أخلاقه عليه الصلاة والسلام وإنه يدعو دائماً إلى الرفق وينكر العنف حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) وذكر أن سبب ورود هذا الحديث كما رأته وروته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فهي شاهد عيان وكما رواه البخاري في صحيحه : قالت : أستأذن رهط من (اليهود) على النبي فقالوا (أي للنبي) : السام عليك فقلت : بل عليكم السام واللعنة فقال : يا عائشة : إن الله يحب الرفق في الأمر كله قلت : أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال : قلت : وعليكم فهؤلاء اليهود من سوء أدبهم لووا ألسنتهم وحرفوا الكلم فبدل أن يقولوا : السلام عليك قالوا : السام أي الموت والهلاك ولكن الرسول الكريم من حسن أدبه وعظمة خلقه لم يرد أن يجعل من ذلك معركة بل رد بهذه الكلمة النبيلة قائلاً : (وعليكم) أين أن الموت مكتوب على كل البشر علينا وعليكم ثم علم عائشة هذا الأدب الرفيع أدب الرفق في التعامل حين قال لها (يا عائشة : إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) .
  إن هؤلاء كانوا (يهوداً) ولكن رغم ذلك رفق بهم الرسول صلى الله عليه وسلم رغم خبثهم والدعاء عليه لعلهم يهتدون أو ينقادون للحق أو يستجيبون لداعي الإيمان فهكذا (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يتحرى الرفق والعبارات المناسبة والألفاظ الطيبة عندما يكون مع يهودي أو نصراني في المجلس أو في الطريق أو في أي مكان يجب أن يدعوهم بالرفق والكلام الطيب حتى ولو جادلوه في شيء خفي عليهم أو كابروا فيه يجب أن يجادلهم بالتي هي أحسن استجابه لقوله تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) "الآية 125 سورة النحل" . مما سبق يتضح لجميع المسلمين حقيقة المنهج الإسلامي في الدعوة مع غير المسلمين من اليهود فما بالنا إن كانوا من إخواننا المسلمين !
  قال الرسول الكريم أيضاً ( إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على سواه) وقال (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه) ..وفي حادثة أخرى تبين كرم النبي صلى الله عليه وسلم ورقه أسلوبه في الدعوة عندما قدم إعرابي إلى مسجد الرسول و (بال) في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه ويضربوه فقال النبي : (دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) وقال الرسول (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا) .
  وعن عائشة رضي الله عنها قالت : (ما خير رسول الله بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما مالم تكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه وما أنتقم رسول الله لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى) فتلك هي السيرة العطرة للرسول صلى الله عليه وسلم التي يجب أن يتبعها رجال الحسبة في كل زمان ومكان كما يجب أن يضعوها نصب أعينهم حتى يتم إيصال الدعوة بأفضل السبل وأنجح الطرق .. وهذا ما فقدناه اليوم .
  وبما أن المقام مقام تعليم ودعوة وإيضاح للحق فإنه يتطلب أن يكون بالتي أحسن لأن هذا أقرب إلى طريق الخير، حيث قال سفيان الثوري رحمه الله "ينبغي للآمر والناهي أن يكون رفيقاً فيما يأمر به رفيقاً فيما ينهى عنه عدلاً فيما يأمر به عدلاً فيما ينهى عنه، عالماً بما يأمر به عالماً بما ينهى عنه، فهكذا كان السلف – رحمهم الله – يتحرون (الرفق) مع العلم والحلم والبصيرة ولا يأمر ولا ينهى إلا عن علم لا عن جهل ويكون مع ذلك رفيقاً عاملاً بما يدعو إليه تاركاً ما ينهى عنه حتى يقتدى به الناس وأن يكون نموذجاً يحتذى به في التعامل والأخلاق الفاضلة .
للحديث بقية ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق