الخميس، 9 فبراير 2012

عمل الحسبة ..والخروج عن الغايات والأهداف 3


عمل الحسبة
والخروج عن الغايات والأهداف
3-5
 16 ديسمبر 2005

  أشرنا في الحلقتين السابقتين إلى أن الأصل في دعوة ديننا الإسلامي الحنيف إلى إحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "أن تكون بالرفق واللين، والتسامح في التعامل والرحمة في كل شيء، وأثبتنا بالأدلة القاطعة من القرآن والسنة النبوية الشريفة أن ذلك جوهر أخلاقه ونهى عن القسوة وذمها وذم من أتصف بها لأن أمة الإسلام مأمورة بالرحمة وموصوفة بها بل إن الرسالة الإسلامية نفسها قائمة على الرحمة وهي الرحمة ذاتها كما جاء في القرآن الكريم فقد خاطب الله رسوله بقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ) "الآية 107 سورة الأنبياء" فهو ليس رحمة لجنس العرب أو الشرقيين أو حتى المسلمين وحدهم بل هو رحمة للعالمين أجميع رسالة للجن والإنس على حد سواء (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) "الآية 56 سورة الذاريات" .
  كما أكدنا أن دعوة الإسلام رسالته للناس جميعاً وفي كافة أرجاء المعمورة وأن الرحمة هم الذين آمنو به وأتبعوه واهتدوا بهديه فهم يعيشون في جو هذه الرحمة إيماناً وتعبداً وفكراً وخلقاً وسلوكاً وتعاملاً فان ذلك يعظم من مسؤولية (أمة الإسلام) وهي (الأمة الوسط) التي حملها الله هذه الأمانة في البلاغ بالوسطية والاعتدال ونبذ الغلو والتطرف والتشدد واتباع الحكمة و الموعظة الحسنة في توعية الآخرين وإرشادهم إلى سماحة الدين القويم دين الإسلام الحنيف استجابة لقوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) "الآية 143 سورة البقرة" .
  وفي هذه الحلقة أود التأكيد على مبدأ من مبادئ وقيم تعاليم الدين الإسلامي السمحاء الذي حثت على الدعوة إلى الرحمة والترغيب في التخلق بها ومعاملة المخلوقات جميعاً حتى (الحيوانات) على أساسها والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة كما وردت في كتاب (الترغيب والتهذيب) "للإمام المنذري" في فضل الرحمة والترغيب فيها وشمولها للإنسان ولا سيما الضعفاء من الخلق وكذلك (للحيوانات) التي تؤكل أو تركب والتي لا تؤكل ولا تركب مثل الهر والكلب ولا أحسب دينا من الأديان يشتمل على هذه الوصايا المكررة المؤكدة ترغيباً في الرحمة والشفقة على خلق الله ومخلوقاته وترهيباً من الشدة والقسوة على عباد الله من الدين الإسلامي بل إن الدين كله كان رحمة للعالمين .
  قال تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) "الآية 38 سورة الأنعام" فله حق الرفق والرحمة كحق الإنسان "الراحمون يرحمهم الرحمن" رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم، بل أن الرحمة بالحيوان قد تدخل صاحبها الجنة "بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطس فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: بلغ هذه الكلب من العطش مثل ما بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله تعالى فغفر له قالوا : يا رسول الله وإن في البهائم أجر ؟ فقال : في كل ذات كبد رطبه آجر" .
  كما أن القسوة على الحيوان تدخل النار "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض" أخرجه البخاري ومسلم، وتمضي الشريعة في تشريع الرحمة بالحيوان فتحرم المكث طويلاً على ظهرة وهو واقف فقد قال صلى الله عليه وسلم : لا تتخدوا ظهور دوابكم كراسي" ويحرم إجاعته وتعريضه للضعف والهزال فقد مر عليه السلام ببعير قد لصق ظهره ببطنه فقال : اتقوا الله في البهائم المعجمة فأركبوها صالحة وكلوها صالحة" كما تحرم إرهاقه بالعمل فوق ما يتحمل : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بستاناً لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي حن وذرفت عيناه فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح دموعه ثم قال : من صاحب هذا الجمل ؟ فقال له عليه الصلاة و السلام : أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلى أنك تجيعه وتدئبه" (أي تتعبه بكثرة استعماله) رواه أحمد وأبو داود .
  وأنا هنا بإيرادي وإشارتي (للحيوانات) ودعوات الإسلام للرحمة والرأفة بها أحاول لفت الانتباه ..أحاول التأكيد والتذكير والعودة إلى جوهر الإسلام وحقيقته ..فموقف الإسلام ودعوته للتعامل بالرفق مع هذه الحيوانات ..هذه المخلوقات التي لا عقل لها ولا كرامة ..إذا كان يأمرنا بوضوح وصراحة بالرفق والرحمة بها والشفقة عليها فكيف يتم تجاهل ذلك مع (الإنسان) المسلم الذي له عقل وصاحب الكرامة ؟ ومن قبل من ؟ ولمصلحة من يتم هذا التجاهل ؟ فالأسلوب والمشهد الحالي والصور التي لا تحمل لنا في وقائعها اليومية سوى المصادمات والمشاجرات والمضاربات وتبادل الاتهامات واستخدام العنف بالأيدي حتى وصلت الأمور بنا إلى المطاردة والملاحقة بالسيارات وصدم الآخرين بها واقتحام المنازل والبيوت والاستراحات وحتى إن قلت إطلاق النار فلن أكون مبالغاً على يد من يدعو إلى (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إنني عندما استشهد بموقف الإسلام من (الحيوانات) أشعر بالأسى والحرقة والحزن فهذا الدين العظيم الذي سبق كافة الشرائع السماوية والوضعية في المطالبة بحقوق الحيوان والرأفة واللين والعناية به يمارس هؤلاء بأسمه أبشع الأساليب وأبعدها عما يأمرنا به ويسعى له ألا وهو العنف وعدم الرحمة والقوة والغلظة والتعسف والتشهير بالمسلمين ..إن تصرفات هؤلاء تدعوني للضحك والبكاء في ذات الوقت ! والتساؤل : أين يريد أن يذهب هؤلاء بأعظم دين دعا دعا لعدم الإساءة بـ(الظن) ..؟ واللين في الدعوة . أي دين نتحدث عنه وندعو الآخرين من المسلمين وغير المسلمين للإقبال عليه والدخول فيه ومشاهد التخويف والترهيب التي يقوم بها غالبية (الآمرين بالمعروف) في الأماكن والمرافق العامة، وأمام أعين كافة شرائح المجتمع ومن هو خارجه من غير المسلمين الذين يحبسون أنفاسهم وهم يرون نظرات الاتهام والتشكيك والتوجيش والمساءلة للزوج والزوجة كل على أنفراد من قبل هؤلاء ؟!
ألا يدرك هؤلاء أن عمل (الحسبة) والدعوة إلى الله ودينه من أعظم وأجل الأعمال وأنها مهمة الرسل وأتباعهم وهي بالنسبة لحياة الناس كالماء للحياة والشمس لإضاءة الكون لا غنى للناس عن ذلك لنجاتهم وإصلاح حالهم في الدنيا والآخرة ومن أجل هذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بل أن الدعوة إلى الله تعالى أعظم الأعمال على الأرض وهي أحد أسباب خيرية هذه الأمة حيث قال تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) "الآية 110 سورة آل عمران"
  ألا يعي هؤلاء أنه لكي تؤدي هذه الشعيرة يجب أن تتسم الدعوة (بالحب) فالواجب على من يدعو أخاه أن يحبه أولاً وأن يشفق عليه وأن يظهر حرصه وحبه له ونبي الله نوح من الأنبياء الذين صرح بحبه وحرصه على قومه في قوله تعالى (بَلِّغُكُمْ رِسلَتِ رَبى وَ أَنصحُ لَكمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) "الآية 62 سورة الأعراف" .. والسؤال للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر : من كان قوم سيدنا نوح عليه السلام ؟ فحين يرى (المدعو) خوف (الداعية عليه) يترك هذا مردوداً نفسياً إيجابياً فيه فإن كان غيره يخاف عليه فكيف لا يخاف هو على نفسه وإن كان الغير يحب له الخير فكيف لا يحبه هو لنفسه ؟!
  فعلى سبيل المثال : إذا إرادت سيدة دعوة أختها للبس الحجاب والالتزام به عن قناعة مطلقة لا بد لها أولاً من فتح باب الصحبة الطيبة والمعاشرة الكريمة والسؤال عنها دائماً وتفقد أحوالها حتى يصل الأمر إلى درجة من المودة والمحبة والقبول بينهما وأن تثق في الداعية وأخلاقها وحسن نيتها بالحرص عليها وأن ترى فيها الصاحبة التي تتمناها فإن وصلت العلاقة إلى هذه المرحلة فقد وصلت إلى درجة (الحب) فتجد الأخت في نفسها قبولاً لكلام الداعية فإذا وجد الحب والتقدير بين الداعية والمدعو انتقل الداعية بالمدعو إلى حب الله سبحانه وتعالى وتذكير المدعو بنعمة وفضله وكرمه ومنه عليه وأن تأخذ حياة المدعو الشخصية نماذج لكرم الله عليها وأن تذكرها به حتى يوصل الرابط الذي انقطع بينها وبين الله .
  وأن تتبع تلك الخطوات بأمثلة : بأن تضرب الأخت الداعية نماذج لأخوات محجبات يمثلن قدوة للنساء والفتيات في التفوق الأخلاقي والعلمي والثقافي والمهاري فإن الإنسان بطبعه يميل لمن هو خير منه ومن هو متفوق عليه في كثير من مجالات الحياة وأن الحجاب لم يكن يوماً ما نعاً من التفوق في الحياة ولا من أن تتمتع الفتاة بحياتها وفق ما رسم لها القرآن الكريم وبذلك ستنجح بالرفق واللين وبكل سهولة في إقناعها بإرتداء الحجاب دون أن تبدأ بالتهجم عليها والإنكار الشديد بأنك سافرة ومتبرجة ولا تعرفين أمور دينك ولا يصلح الجلوس معك وغير ذلك من ألفاظ الهجوم المنفرة .
  أوردت هذا المثال عامداً متعمداً وفي هذا الجانب بالذات لأن ما يمارس ويحدث حالياً على يد غالبية من يمارس الدعوة هو العكس تماماً وللأسف الشديد مما جعل الإسلام كدين يدفع ثمن أخطاء وتخبط هؤلاء حتى كثرت الأحداث والقضايا والصور التي شوهت الوجه الحقيقي لديننا الإسلامي الحنيف وسماحته ورفقه ولينه ولما وجهنا به من أسلوب في الدعوة .
  ورغم الحاجة الماسة في هذا الزمان إلى شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكثرة الجهل وقلة العلم بالدين وغفلة الكثيرمن الناس عن أمور الدين وانتشار الشرور والفساد وكثرة دعاة الباطل وقلة دعاة الخير إلا أنه يجب أن تكون الدعوة بالمعروف من خلال الكلمة الطيبة وبالرفق واللين وانتهاج سماحة وتعاليم الدين الإسلامي في ذلك وإظهار اللطف في الدين الإسلامي الصالح لكل زمان ومكان فهو خاتم الرسالات ، لعم الفائدة ويتم إيصال صوت الحق ورفع كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) في كافة أرجاء المعمورة بكل تقبل وترحية .
وللحديث بقية ..
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق